روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | آباء وأبناء...بر وعقوق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > آباء وأبناء...بر وعقوق


  آباء وأبناء...بر وعقوق
     عدد مرات المشاهدة: 4146        عدد مرات الإرسال: 0

عائدة يوما إلى منزلي في إحدى المواصلات العامة، وحرارة الجو تثقل الأنفاس، فإذا برنين هاتف أحد الركاب، وكان لرجلٍ كبير طاعن في السن تعدى السبعين تقريبا، رد على الهاتف، وما هي إلا كلمات هادئة حتى إنتابته نوبة من العصبية الموجهة لمحدثه، كان يصيح ويقول له لا...لا تذهب، كيف تذهب لهذا المكان؟ أنت لست في حاجه إليه، أنت لا تقدر على تكاليفه، ربما وجدنا مخرجا آخر بديلا لهذا المكان، وأخيرا قال الرجل كيف تذهب لدار المسنين ولديك أولاد؟! أخذ يذكر له أسماء دور المسنين مبينا له أنها تطلب مبالغ كبيرة لن يقدر هو على الوفاء بها، وأن الدور الحكومية ليس فيها أي إهتمام أو نظافة، فهي مقبرة للأحياء، قال منهيا حديثه سوف أجلس مع أولادك علنّا نجد حلا.

إستمعت لهذا الحديث الذي أخذني معه لأعوام مضت، كنت لازلت في كليتي ومتطوعة لصالح إحدى دور المسنين الأهلية، أو دار لرعاية كبار السن، لا فرق هنا في التسميات كما لا فرق بين نزلائه الذين شاءت الأقدار وجحود الأبناء أن يكونوا تحت رعاية الآخرين من الأغراب، ويجدوا في كنفهم ما فقدوه من أبناء من دمهم ولحمهم، ولقد كانت بحق تجربة عصيبة، أتذكر منها وجوها لأمهات، وجوها متغضنة، وسنون أكلت شباب العمر الذي كان طافحا بالكفاح من أجل أن يكبر الأبناء، يجلسن ينتظرن وينتظرن أن يجيء أحد الأبناء أو أحد الأحفاد، ولكن إنتظارهم يطول والأبناء قد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلم يكتفوا بإيداع أمهاتهم وآبائهم لدور المسنين، ولكن بخلوا عليهم أيضا بالزيارة، يا لقسوة القلوب وتحجر المشاعر، ولقد كانت من ضمن النزيلات هناك الحاجة سعاد بوجهها البريء وعينيها الذابلتان، أحببتها كثيرا فقد كان هناك شبه كبير بينها وبين جدتي التي كانت قد توفاها الله، فأصبحت أزورها بإستمرار مستمتعة بوقتي وكلامي معها ومع باقي النزيلات، مستبشرة بدعواتهن الصادقة، وفي أحد الأيام كعادتي ذهبت للدار وإذا بي لا أجد الحاجة سعاد، قلت لعلها ذهبت لزيارة إحدى بناتها، وسألت إحدى النزيلات معها فردت علىّ أنها ذهبت لترتاح فلقد تعبت كثيرا، تصورت أنها ذهبت فعلا لزيارة بنت من بناتها فقد كان لها أربع من البنات، فقلت: هل زارتها إحداهن أخيرا؟ فردت أنها لم ولن تكن لترتاح عند أيٍّ من بناتها، قلت: أين ذهبت إذا؟ قالت لي لقد إسترد خالقها أمانته، يا الله!! ما هذه الردود العميقة؟... يتحدثن عن الموت ببساطة لم أعهدها لأحد سوى عند نزلاء دور المسنين، ينتظرون الموت بلهفة وكأنهم ينتظرون ضيفا عزيزا، بكيت عليها وكأن جدتي توفت للمرة الثانية، فإذا بإحدى السيدات تقترب مني وتقول لي: لم تبكين؟ أخبرتها عن حزني لفقد الحاجة سعاد، فقالت لي هل كانت والدتك أو إحدى قريباتك؟ فقلت: لا، فقالت لي: لماذا كل هذا الحزن؟ فبناتها لم يحزن عليها كل هذا الحزن، بل ولم يرضين إستلام جثمانها، يا الله! يا لقسوة القلوب! ألم تكن تلك أمهن التي حملتهن وربتهن وزوجتهن؟! فسألتُ السيدة: ومن أنتِ؟ قالت: والدتي نزيلة في هذه الدار، ثم رأيت هذه السيدة تتوجه لتغادر الدار متجهة لسيارتها الفارهة تاركة نظرات والدتها التي تتعقب خطوات رحيلها بكل ألم وحب، وعلى الرغم مني سألت والدتها لماذا تترككِ هكذا؟؟ قالت هي مشغولة كثيرا ولا أحب أن أكون عبئا عليها، أنا أعذرها، يا لقلب الأم المتسامح دائما ويا لقسوة الأبناء التي لم ترحم أما في شيخوختها.

أقف حائرة لماذا كل هذا الإستهتار والتهاون في حق الوالدين؟ لماذا كل هذا الجحود ونكران الجميل؟ أليس الوالدان هما سبب وجود الإنسان؟ ولهما عليه غاية الإحسان؟، مالي أرى في مجتمعاتنا الغفلة عن هذا الموضوع والإستهتار به، أما علمنا أهمية بر الوالدين؟، أما قرأنا قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} [النساء:36] ألم نلاحظ أن الله قد قرن توحيده، وهو أهم شيء في الوجود، بالإحسان للوالدين؟ ليس ذلك فقط بل قرن شكره بشكرهما أيضا قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير*وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} [لقمان:14-15] حتى لو وصل الوالدان إلى مرحلة الحث على الشرك بالله وجب علينا برهما.. ماذا نريد إثباتاً أكثر من ذلك؟ وهناك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين لنا أهمية بر الوالدين، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، قلت من هذا؟ فقالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلكم البر، كذلكم البر» -وكان أبر الناس بأمه- رواه ابن وهب في الجامع وأحمد في المسند.

ولقد أوصى الإسلام بالآباء خيرًا ونهى عن قطيعتهم وإيذائهم أو إدخال الحزن عليهم، كيف لا؟، والإسلام دين الوفاء والبرِّ، وبالرغم من كل ما نسمعه من القصص الواقعية، التي لا تكاد تصدقها عقولنا، فالمؤسف أن أصحاب هذه القصص التي تفطر القلوب وتدميها هم من البشر ومن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنهم نسوا مراقبة الله لهم وكأنهم لن يحاسبوا.. أما سمع هؤلاء بقول الفقهاء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.

والبر لا يقتصر أجره على ثواب الآخرة فقط، بل له فائدة وتوفيق من الله في الدنيا أيضا، كما في قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت إليهم، فحلبت، بدأت بوالداي أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر -أي بعد علي المرعى- فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي -أي يبكون- فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك إبتغاء وجهك فأفرج لنا ففرّج الله لهم حتى يرون السماء، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابانِ مُعجَّلان عُقوبتهُما في الدنيا: البغي، والعقوق».

غير أنني أرى أن هناك بعض الأسباب التي أدت إلى إنتشار ظاهرة العقوق ألا وهي:

۱= تفضيل بعض الأبناء وإيثارهم على بعض، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك نهياً شديداً، وحذر من مغبته، وعندما جاء بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهب لابنه النعمان، قال له: «أكل بنيك منحت هكذا؟» قال: لا، قال: «لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري، ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء؟»، فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناء والبغضاء، فتسود بينهم روح الكراهية، ويقودهم ذلك إلى بغض الوالدين وقطيعتهما، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم».

۲= عقوق الوالدين لوالديهم، فبعض الناس إذا كان لديه والدان كبيران أو مريضان، رغب في التخلص منهما، إما بإيداعيهما دور العَجَزة، أو بترك المنزل والسكنى خارجه، أو غير ذلك، إيثارًا للراحة -كما يزعم- وما علم أن راحته إنما هي بلزوم والديه وبرهما، فهذا من جملة الأسباب الموجبة للعقوق، فإن كان الوالدان عاقين لوالديهم عوقبا بعقوق أولادهما، فالأولاد يقتدون بآبائهم في العقوق، كما أن الجزاء يكون من جنس العمل.

۳= سوء خلق الزوجة، فقد يبتلى الإنسان بزوجة سيئة الخلق، لا تخاف الله، ولا ترعى الحقوق، فتجدها تغري الزوج، بأن يتمرد على والديه، أو يخرجهما من المنزل، أو يقطع إحسانه عنهما، ليخلو لها الجو بزوجها، وتستأثر به دون غيرها، وقد تبتلى الزوجة بزوج سيئ الخلق، يمنعها من بر والديها حتى لا تنشغل بأحد سواه.

٤= سوء التربية، إهمال الوالدين في غرس الأخلاق الإسلامية وتنمية الوازع الديني والحث على أداء الصلاة وتحفيظ القرآن، فالوالدان إذا لم يربيا أولادهما على التقوى، والبر وصلة الأرحام، فإن ذلك سيقودهم إلى التمرد والعقوق.

٥= البعد النفسي عن الأبناء، فعلى الآباء التقرب من أبنائهم ومتابعتهم، والجلوس معهم، ومصادقتهم، ويكون موقفهم وسطا بين الشدة واللين، ومحاسبتهم على أخطائهم وتقويمها، والثناء والشكر على حسن صنيعهم وعلى أفعالهم الطيبة والصالحة، والسؤال عن أصحابهم وتفقدهم والجلوس معهم للتأكد من صلاحهم وعدم فسادهم، ومتابعة الأبناء ومجالستهم في غرفهم ومصارحتهم في كل مشاكلهم، وإستيعابهم وتعويدهم الصراحة والصدق واللجوء إلي الوالدين عند التعرض لأي مشكلة، وبذلك تنشأ رابطة من الحب والتفاهم بين الآباء وأبنائهم فلا يكون هناك مجال للعقوق.

٦= قلة تقوى الله في حال الطلاق، فبعض الوالدين إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان، بل تجد كل واحد منهما يغري الأولاد بالآخر، فإذا ذهبوا للأم قامت بذكر مثالب والدهم، وبدأت توصيهم بالبعد عنه وهجره، وهكذا إذا ذهبوا إلى الوالد فعل كفعل الوالدة، والنتيجة أن الأولاد سيعقون كلا الوالدين، والوالدان هما السبب.

٧= عقوق الآباء لأبنائهم، على الآباء أن يتعاملوا مع أبنائهم لا من باب الحقوق والواجبات ولكن معاملة الفضل، التي وضعها الله تعالى في نفوسهم تجاه أبنائهم، حتى تتم الصورة التي وضعها الله تعالى لهم في الإسلام، فإن تكريم الله تعالى للآباء والأمهات ليس لذات الإنجاب، ولكن لما يقومون به من تربية، فإن تخلى الآباء عن التربية، فقد أسقطوا حقهم عند الله فيما وهبهم من فضل، وإن وجب على الأبناء برهم، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد، وأنَّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمَّه، ويحسن إسمَه، ويعلمه الكتاب -القرآن- قال الولد: يا أمير المؤمنين، إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أمّا أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعَلاً -خنفساء- ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق ،إبنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.

وحتى يطيب العطاء لله، لابد من أن يطيب الغرس لله وبصدق، ومَن أدب ابنَه صغيراً، قرت عينه كبيراً، وكما يريد الآباء من أولادهم أن يبروهم، فليكونوا هم على مستوى ذلك البر.

وصيتي لك أيها الابن، قد تجرفك الحياة في صخبها فتنسى هذا الجميل الذي بذله والداك منذ كنت جنينا في رحم أمك، إلا أن الأدب والبر والإعتراف بالجميل مبدأ من مبادئ الإسلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له» رواه الطبراني في الكبير، فما بالك بأبويك اللذين رباك وسهرا على راحتك، وقدماك على نفسيهم.

وأخيرا وصيتي لك أيها الأب وأيتها الأم، برّك أنت أيها الأب وأيتها الأم بأبيك وأمك، فالبر دين، فإن أقرضته والديك إستوفيته من أبنائك أضعافاً مضاعفة، وإلا فستشربان كؤوساً من العقوق مترعة «برّوا آبائكم تبركم أبناؤكم».

فإعملا مع والديكم ما تحبان أن يعمله أبناؤكم معكم غداً، وإبذرا تحت أقدامهم ما شئتما أن تحصداه من أبنائكم غداً، أسال المولى أن يصلح لنا النية والذرية، {ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً}.

الكاتب: هدى محمد نبيه.

المصدر: موقع رسالة المرأة.